كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين، كما قدمنا في مجيء القوم.
وليس فيه أيضًا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا، فهذا مقام الاستفادة منه، فليتفضل بها علينا، وابن عباس، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة.
وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ وآل عمرانيّ، والقاسم بن إبراهيم، نجم آل الرسول، وجماعة من الشيعة، وثلة من محققي المتأخرين، خالفه أيضًا القرآن الكريم، كما بيناه.
وخالفه أيضًا فعل رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، كما صح ذلك تواترًا، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات.
{وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: من الآية 7].
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: من الآية 21].
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عِمْرَان: من الآية 31] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنه المعاذير.
وأما حديث أمره صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لغيلان، لما أسلم وتحته عشر نسوة، بأن يختار منهن أربعًا ويفارق سائرهن، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان، فهو وإن كان له طرق، فقد قال ابن عبد البر: كلها معلولة، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى، ومثل هذا لا ينْتَهِضُ للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات صَلّى اللهُ عليّه وسلّم عليه والبراءة الأصلية.
ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة، أو جاءنا بدليل في معناه، فجزاه الله خيرًا، فليس بين أحد وبين الحق عداوة.
وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لاسيما في مقامات التحرير والتقرير، كما نفعله في كثير من الأبحاث، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك، لقيل وقال.
ولاسيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال، فإنك لا تُسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود، وإذا جاء نهر الله بطل نهر مَعْقِل، ومن ورد البحر استقل السواقيا. انتهى.
وقال الشوكاني قدس سره أيضًا في نيل الأوطار: حديث قيس بن الحارث (وفي رواية الحارث بن قيس) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة.
قال أبو القاسم البغوي: ولا أعلم للحارث بن قيس حديثًا غير هذا.
وقال أبو عَمْرو النمري: ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح، وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفي وهو عن الزهريّ عن سالم عن ابن عمر قال: أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة، في الجاهلية، فأسلمن معه، «فأمره النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أن يختار منهن أربعًا»، رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ، وحكم أبو حاتم أبو زرعة بأن المرسل أصح.
وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة، قال: فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة، وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه.
قال الحافظ: ولا يفيد ذلك شيئًا، فإن هؤلاء كلهم، إنما سمعوا منه بالصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم، كابن المديني والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم.
وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح، والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده.
وقال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة.
وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه.
ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلًا، ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك، وقد وافق معمرًا على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ، ولكنه ضعيف، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك، ويحيى ضعيف.
وفي الباب عن نوفل بن معاوية، عند الشافعيّ، أنه أسلم وتحته خمسة نسوة، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: أمسك أربعًا وفارق الأخرى، وفي إسناده رجل مجهول، لأن الشافعيّ قال: حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت، فذكره، وفي الباب أيضًا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ.
وقوله: «اختر منهن أربعًا»، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعًا، ولعل وجهه قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل، تسع.
وحكي ذلك عن ابن الصباغ وآل عمراني وبعض الشيعة.
وحكي أيضًا عن القاسم بن إبراهيم، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية، وقوم مجاهيل.
وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول، قالوا: ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك، ولاسيما وقد ثبت أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: من الآية 21].
وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع، ولم يقم عليه دليل.
وأما قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} فالواو فيه للجمع لا للتخيير، وأيضًا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين، وهو يدل على تناول ما كان متصفًا من الأعداد بصفته الأثنينية، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف، فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي: اثنين اثنين، وهكذا ثلاث ورباع، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد.
فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثًا ثلاثًا وأربعًا أربعًا، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها، فإنه لا شك أنه يصح، لغة وعرفًا، أن يقول الرجل، لألف رجل عنده: جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير.
لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم، فكأن الله سبحانه وتعالى قال، لكل فرد من الناس: أنكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها.
وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج، وإن كان كل واحد لا يخلوا عن مقال، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة، كما صرح به الخطابي، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل، وأيضًا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع، كما صرح بذلك في [البحر].
وقال في [الفتح] اتفق العلماء على أن من خصائصه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن، وقد ذكر الحافظ في [الفتح] و[التلخيص] الحكمة في تكثير نسائه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فليراجع ذلك. انتهى.
وقال قدس سره في تفسيره فتح القدير: وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد، كما يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال، وهو ألف درهم (أو هذا المال الذي في البدرة) درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته، أو عيّن مكانه، أما لو كان مطلقًا، كما يقال: اقتسموا الدراهم، ويراد بها ما كسبوه، فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول، على أن من قال لقوم يقتسمون مالًا معينًا كبيرًا: اقتسموه مثنى وثلاث ورباع، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين، وبعضه ثلاثة ثلاثة، وبعضه أربعة أربعة، كان هذا هو المعنى العربيّ.
ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، هكذا: جاءني القوم ثلاث ورباع.
والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، كما في قوله تعالى: {اقْتُلُواْ المشْرِكِينَ}: {أَقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا الزّكَاةَ} ونحوها، ومعنى قوله: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}: لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثًا وثلاثًا وأربعًا وأربعًا.
هذا ما تقتضيه لغة العرب، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} فإنه وإن كان خطابًا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد.
فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن، وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال: انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربيّ، ولو قال: انكحوا اثنتين وثلاثًا وأربعًا كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.
أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدارقطني والبيهقيّ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «اختر منهن (وفي لفظ أمسك منهن) أربعًا وفارق سائرهن»، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.
وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: «أمسك أربعًا وفارق الأخرى»، أخرجه الشافعيّ في مسنده.
وأخرج ابن ماجة والنحاس في تاريخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة، فأتيت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأخبرته، فقال: «اختر منهن أربعًا وخل سائرهن»، ففعلت، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ.
وقال قدس سره أيضًا في كتابه السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل: {مّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فغير صحيح، كما أوضحته في شرحي للمنتقى وقد قدمناه.
ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه، وإن كان في كل واحد منها مقال، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه.
وقد حكى الإجماع صاحب [فتح الباري] والمهدي في [البحر] والنقل عن الظاهرية لم يصح، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم. انتهى.
تتمة:
روى الدارقطني عن عُمَر بن الخطاب رَضِي اللّهُ عَنْهُ قال: ينكح البعد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين.